( الحلقة الخامسة )
وفي السنوات العشر الأولي من حكمه كان هناك ضابط متخصص يقوم بأخذ عينات من طعام الرئيس مبارك ليتناولها قبل الرئيس خوفاً من تسميمه وفيما بعد تنازل مبارك عن هذا الإجراء لثقته في طباخه الشخصي أحمد مصطفي الذي عمل مع مبارك منذ أن كان قائداً للقوات الجوية ويساعده طهاة آخرون يتم تغييرهم باستمرار بناء علي طلب أحمد مصطفي.
وقد سئل مبارك يومًا عن طعامه القليل وأن ذلك ليس في صالحه فرد مبارك «البني آدم عامل زي الطيارة طالما فيه صيانة دورية يبقي عمرها الافتراضي هايطول».ولعدة سنوات كان مبارك يهوي تربية الكلاب ويقتني كلبين «وولف» من النوع العنيف إلا أنهما ماتا عام 2005 تباعاً بعد أيام من وفاة الصول الذي كان يتولي رعايتهما وبعدها لم يرب الرئيس أي كلاب ولو تنبه مبارك لأدرك أن سوء حظه في الحكم بدأ بعد موت الكلبين أما سوزان مبارك فلديها 3 ببغاوات من النوع الناطق وينادونها باسم «سوزي.. سوزي» وقد ظلت الببغاوات إلي أن خرجت من الحكم مع مبارك.
وقد كانت من عادات مبارك أن يجلس في حديقة المنزل من الثامنة صباحاً بعد الإفطار وإلي جانبه الكلب الضخم «برنس» جاثيا علي ركبتيه وكان مبارك يستقبل بعض ضيوفه الخاصين في هذه الساعة ويحلو له مشاكسة الدكتور مصطفي الفقي بالكلب برنس الذي كان بالطبع يخافه كما يخافه أي شخص إلي درجة أن مصطفي أبدي رفضه يوما عرض البوستة علي الرئيس إلا إذا أمر بإبعاد «برنس» وقال له مبارك اعرض البوستة يا مصطفي أنا رئيس الجمهورية وبأمرك قال مصطفي سيادة الريس لو حصل حاجة من الكلب أنا حامسك في سيادتك قال مبارك عارف لو عملت كده حتكون نهايتك ده متمرن علي أن أي واحد يمسك في يهاجمه علي طول، وفي مرة ثانية فوجئ الدكتور أسامة الباز وكان يجلس أمام الرئيس بلسان يلحس في قفاه وكان لسان برنس!.
وقد حدث في إحدي الليالي أن تسبب «برنس» في أزمة أمنية إذ أمسك ليلة بسماعة التليفون الموجود في الحديقة وهو التليفون الخاص بالرئيس وعلي الفور أجاب السويتش أفندم ولكنه لم يسمع جواباً ومرة أخري قال السويتش أفندم ولم يأته الرد وعلي الفور أطلق موظف السويتش صفارة الخطر التي دوت في كل أركان محال إقامة أجهزة الأمن سواء في العمارة المختصة التي يسكن فيها الأمن أو الموجودة حول البيت فقد تصور موظف السويتش أن الرئيس تعرض لخطر ورفع السماعة للاستنجاد إلي أن تبين أن برنس هو سبب الأزمة!.
ويحكي المسئولون في الرئاسة وهذا كلام نشر علي الإنترنت أن إدارة الشفرة بسكرتارية الرئيس تشفر جميع أجهزة التليفون داخل منزله بحيث إذا حاول أحدهم التنصت علي مكالمته لا يسمع سوي صوت ترددات غير مفهومة وزيادة في السرية كان يتم تغيير الشفرة أسبوعياً بحضور مدير أمن المقر أما إذا أراد رئيس دولة ما الاتصال بمبارك فيتم ذلك من خلال سفير هذه الدولة بمصر الذي يتصل بسويتش السكرتارية ويخبرهم مثلا بأن الرئيس أوباما يريد مهاتفة الرئيس مبارك بعد ساعة من الآن فيتم إبلاغ مبارك والانتظار لحين إجراء الاتصال وكانت العادة أن يحمل مدير أمن المقر حقيبة خاصة بها 12 شريحة موبايل يتم تغييرها يوميا، لتكون تحت طلب الرئيس مبارك لو أراد الاتصال بأي تليفون محمول لأي شخص في مصر أو في الخارج.
في يوليو 1989 وعلي مائدة العشاء في مطعم فندق هيلتون أديس أبابا بحضور الدكتور أسامة الباز مستشار الرئيس للشئون السياسية والزميلين إبراهيم نافع ومكرم محمد أحمد حيث كنا في رفقة الرئيس حسني مبارك لحضور مؤتمر الدول الإفريقية.. تطرق الحوار إلي منصب رئيس الوزراء الذي يشغله الدكتور عاطف صدقي في ذلك الوقت، وكان قد أجري عملية جراحية في القلب «باي باس».. وقال الدكتور الباز معلقاً إن الدكتور عاطف قد لا يتحمل الاستمرار في عمله بعد هذه العملية، قال ذلك ثم توجه إلينا بسؤال: فمن ترون أنه يمكن أن يخلفه؟ وقبل أن نجيب قال لنا الباز إنه في إحدي المرات سأل الرئيس مبارك عن المواصفات التي يمكن أن يختار علي أساسها أي رئيس وزراء بعيداً عن الأسماء وكانت هذه المواصفات هي: أن يكون اقتصادياً لأن معظم مشاكل مصر تقوم علي أساس اقتصادي، وأن تكون له خبرة في العمل، وأن تكون طهارته معروفة، وألا تحيط الشكوك باسمه، والشرط الخامس أن يكون «هارد ووركر» وقد قالها بالإنجليزية، وأضاف الدكتور الباز: هذه المواصفات هي التي جاءت بفلان رئيساً للوزراء ولكن التجربة العملية أثبتت عدم توفيقه ولم يستمر أكثر من شهور.. وأضاف أسامة قائلاً: في جميع الأحوال الرئيس يجب أن ترشحوا له ثلاثة أسماء علي الأقل ويطلب ألا يفرض عليه اسم واحد.
وانتهي العشاء دون أن نتوصل إلي الأسماء الثلاثة لكن أصبح متيقنا لنا أن أيام الدكتور عاطف صدقي الذي تولي رئاسة الوزارة في نوفمبر 1986 أصبحت معدودة لا لشيء سوي أن صحته لا تتحمل الشغل القاسي الذي يطلبه الرئيس من معاونيه.
كنا في شهر أغسطس 1989 وانتظرنا التغيير في نوفمبر لكننا عرفنا أن مبارك أجل التغيير حتي لا يحدث في نفس السنة التي أجري فيها عاطف صدقي عمليته الجراحية فيبدو ذلك عقابا علي عمل لم يكن له ذنب فيه، ولذلك قرر الانتظار وفي سنة 1990 قيل إنه سيجري التعديل في الصيف ولكن شهر أغسطس جاء ومعه حدث غزو صدام حسين للكويت، وأصبحت قضية الكويت هي الشغل الشاغل وانتهت بتحريرها وخرج صدام حسين مهزوماً مقهوراً، أما الدكتور عاطف صدقي الذي كان مفروضاً أن يترك الوزارة عام 1989 فقد استمر فيها إلي يناير 1996 مسجلاً رقماً قياسياً في طول المدة التي رأس فيها الوزارة!!
أخيراً جاء دور الدكتور كمال الجنزوري ليصبح رئيساً للوزراء في 4 يناير 1996 وليكون رئيس الوزراء رقم خمسة في قائمة رؤساء وزارات مبارك.. وقد تأثر الجنزوري من خلال توليه في البداية محافظ الوادي الجديد ووزارة التخطيط بعد ذلك لمدة نحو عشرين سنة بأن مشكلة مصر الكبري في المساحة الضيقة التي تعيش داخلها وضرورة الخروج من الوادي الضيق الذي تنحصر حياة ملايين المصريين فيه منذ محمد علي علي نفس المساحة من الأرض الزراعية والمأهولة، ولذلك فإن من يتابع المشروعات التي بدأها الجنزوري يجد أنها حاولت الاتجاه إلي الصعيد وتوشكي وسيناء.
وفي حوار خاص مع الجنزوري قال إنه أسرع فور توليه رئاسة الوزارة بتنفيذ مشروعات كانت مقررة بالفعل في خطط التنمية المقررة.
> ففي الشمال تم استكمال تنفيذ مشروع كان قد بدأ قبل توليه، يتم فيه استخدام مياه النيل في زراعة 230 ألف فدان غرب قناة السويس ومساحات أخري في سيناء وكان قد تم لهذا الغرض شق قناة السلام رقم «1» من فارسكور إلي قناة السويس علي أساس خلط مياه النيل التي تصل عبر هذه الترعة مع كميات مماثلة من مياه مصر في بحر البقر وجاسور، واستخدامها في زراعة 230 ألف فدان بالمنطقة، وقد بدأت وزارة الجنزوري باستصلاح 70 ألف فدان شمال الدلتا، كما بدأت تنفيذ مشروع ترعة السلام رقم «2» الذي يستهدف نقل مياه نهر النيل إلي غرب قناة السويس من خلال سحارات تحت القناة لتصل المياه إلي شرق القناة وسيناء بما يضيف زراعة نحو 400 ألف فدان، وجري حفر أربع سحارات حتي أكتوبر 1998 وحفر ترعة بامتداد 67 كيلو متراً داخل سيناء ومد سكة حديد إلي بئر عبد، تمهيداً للوصول إلي رفح ولكن المشروع توقف.
وفي الشمال أيضاً جري إعداد مشروع أطلق عليه مشروع شمال غرب السويس يمتد علي مساحة 300 مليون متر مربع كانت معظمها جبلية وقد تم تسطيحها وقامت القوات المسلحة بإزالة ما بها من ألغام، وكان مقرراً أن تتسع هذه المنطقة لعشرات المشروعات الصناعية لكن لم تقم فيها سوي خمسة مشروعات، أربعة مشروعات مصرية للسماد والسيراميك والحديد بالإضافة إلي منطقة خاصة «2 كيلو متر مربع» يقيم عليها الصينيون عدداً من المشروعات.
> وفي الجنوب أقيم مشروع توشكي جنوب الوادي في الصحراء الغربية، وهو مشروع زراعي يهدف إلي مد قناة من النيل بطول 50 كيلو متراً يضخ فيه مياه النيل ويتم رفع مياهها نحو 52 متراً لري نصف مليون فدان، يمكن أن تزيد إلي مليون فدان، وقد تم تنفيذ مشروع الترعة وإعمال محطة رفع المياه وزراعة بعض الأراضي الاسترشادية إلا أن حركة العمل في المشروع تكاسلت بعد أن اتهم المشروع بأنه ابتلع أربعة مليارات جنيه وقيل ستة مليارات، مع أنه من باب أولي استثمار ما جري إنفاقه لأنه يمثل الأساس للمشروع.
وفي الشرق أقيم مشروع شرق التفريعة «تفريعة بورسعيد» الذي يعتبر من أجمل المواقع المطلة علي البحر الأبيض، وكان الهدف أن تقام فيه مشروعات خدمية تضم مستودعات لتخزين المنتجات البترولية ومحطات تموين للسفن والناقلات، ولكن لم تتم الاستفادة بالمشروع حتي اليوم.
وفي الغرب تم شق ترعتين بهدف زراعة المنطقة ومد سكة حديد وأيضاً توقف العمل في المشروع وامتلأت الترعتان بالرمال وسرقت قضبان السكة الحديد.
في 26 سبتمبر 1999 أعيد الاستفتاء للمرة الرابعة علي حسني مبارك دون أن يبدي هذه المرة أي ممانعة في التمديد الذي كان قد أصبح في نظر مبارك فرضاً مقرراً، وفي يوم الخامس من أكتوبر ذهب مبارك إلي مجلس الشعب لافتتاح الدورة البرلمانية الجديدة، وفي صالون المجلس قبل أن يدخل مبارك القاعة سأله الدكتور كمال الجنزوري إذا كان من المناسب وطبقاً للتقاليد مع مدة الرئاسة الجديدة أن تتقدم الحكومة باستقالتها فأجابه مبارك بسرعة: أيوه ما أنا حاعمل تغيير وإنت حاتمشي!! وحسب كلام الجنزوري لي فإنه قال في سره: الحمدلله.. ذلك أن الجنزوري أحس منذ فترة أن علاقته مع مبارك أصبحت تمثل عبئاً علي الاثنين علي مبارك وعلي الجنزوري، فمن ناحية مبارك كانت التقارير التي نقلت إليه تبالغ في شعبية الجنزوري وكان من صفات مبارك التي أصبح من حوله يعرفونها شعوره بالضيق من أي واحد له بريق جماهيري، مما جعل المحيطين به يبعدون من يريدون لمجرد التلويح لمبارك بأن فلاناً هذا تتسلط الأضواء عليه، ومن يراجع كل الذين استمروا طويلاً في مواقعهم يجد أنها الشخصيات التي لم تكن لها جماهيرية أو ثقل.
عبر الجنزوري عن إنجازاته بطريقة عملية سجلها في خطاب استقالة الوزارة بينما كان ديوان الرئيس يريد أن تكون الاستقالة علي طريقة الإقالة ولكن الجنزوري سجلها مكتوبة، يقول خطاب الاستقالة الذي كتبه طلعت حماد وزير المتاعب -كما كانوا يسمونه في وزارة الجنزوري-.. السيد الرئيس إن نتيجة استفتاء السادس والعشرين من سبتمبر 1999 قد جاءت لتجدد ثقة الشعب بكم رئيساً يقود البلاد باقتدار لتحقيق الانطلاقة الكبري في القرن الجديد، ولقد كنتم برعايتكم ومتابعتكم وتوجيهاتكم وراء كل إنجاز استطاعت هذه الحكومة أن تحققه منذ شرفت بتكليفكم لي في الرابع من يناير 1996 بتشكيل حكومة قادرة علي مواصلة مسيرة الإصلاح والتنمية والتقدم، تبني علي ما تم تحقيقه وتضيف إليه وتعمقه للانتقال بالمجتمع المصري إلي مشارف جديدة.
ومن دواعي الغبطة والارتياح أن تمكنت الحكومة من الاستجابة لآمالكم العظيمة في الخروج من القوالب الجامدة في الأداء والانطلاق بالهمة المصرية الفائقة لبدء حضارة جديدة.
كما اهتمت الحكومة بتحقيق نقلة نوعية في الاقتصاد المصري عن طريق استكمال برنامج الإصلاح الاقتصادي وتطبيق حزمة من السياسات والإجراءات التي تناولت تعديل البنية التشريعية وتهيئة بيئة جاذبة للاستثمار المحلي والأجنبي وتابعت الحكومة الجهد العظيم الذي قمتم به لتخفيض الدين الخارجي علي البلاد، فالتزمت بمنهج عدم الاقتراض من الخارج.
لقد قطعت الحكومة بقيادتكم شوطاً ملموساً لتنفيذ برنامج متكامل للإصلاح والنهضة ولقد وفقنا الله وبقيادتكم لإنجاز جانب من تطلعات الشعب المصري في هذه المرحلة المهمة من حياتنا جميعاً، وإننا ونحن علي أبواب مرحلة جديدة من مراحل العمل الوطني متصل الحلقات إعمالاً للتقاليد الدستورية المرعية نتقدم إليكم باستقالة الحكومة معربين عن أسمي آيات التقدير لكم داعين الله أن ترقي مصر بقيادتكم إلي المكانة اللائقة بها بين دول العالم «انتهي» القاهرة في 5 أكتوبر 1999.
وبخروج كمال الجنزوري من الوزارة أسدلت عليه ستائر النسيان، فلم يتم تعيينه في أي منصب، وظل سنوات طويلة مستبعداً من قائمة المدعوين لأي احتفال بعد أن نقل إلي مبارك أنه إذا دخل أي مكان يقابل بالتصفيق، وطوال 11 سنة لم ينسب إليه أي حديث أو تصريح، إلي أن سقط نظام مبارك فشاهده المواطنون بعد غياب طويل في حديث مع المذيعة اللامعة مني الشاذلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق